الاستراتيجية العسكرية المعاصرة والمذاهب العسكرية العالمية السائدة
إعداد: العميد الركن- إبراهيم إسماعيل كاخيا
الاستراتيجية العسكرية "هي فن توزيع مختلف الوسائط العسكرية والاستراتيجية واستخدامها لتحقيق هدف السياسة" إذ أن الاستراتيجية لا تعتمد على حركات الجيوش فحسب ولكنها تعتمد على نتائج هذه الحركات أيضاً، والاستراتيجية المعاصرة، في جوهرها، علاقة بين الوسائط والأغراض، وهي تكييف للوسائل المتاحة والموارد والإمكانات البشرية والمادية والمعنوية (الروحية)، واستخدامها لبلوغ الأهداف المرسومة. وهي بذلك علاقة بين الحاضر والمستقبل لأنها تحدد المناهج والأدوات على ضوء رؤية مستقبلية للأغراض ونظرة فلسفية للتطور وهي تتضمن بالضرورة ترجيح تصور على تصور وبديل على آخر. بناءً على تلك الرؤية المستقبلية.
وفي هذا المقال سنحاول أن نتعرف على مفهوم الاستراتيجية الشاملة (الكلية) وتعاريفها المختلفة ثم نلقي الضوء ساطعاً بعض الشئ على مضمون "الاستراتيجية العسكرية" خاصة وعلاقتها بعلم الحرب من جهة وبفن الحرب من جهة أخرى. ثم ندرس بإيجاز المذاهب العسكرية العالمية المعاصرة لنخلص إلى خاتمة مفيدة.
1 في تحديد مفهوم الاستراتيجية وتعاريفها المتعددة:
يعتبر مفهوم الاستراتيجية The Strategyس من المفاهيم المتداولة في العلوم الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تستخدم للدلالة على أكثر من معنى واحد. فكلمة "استراتيجية" و "استراتيجي" تستخدمان استخداماً واسعاً من قبل الباحثين والمتخصصين في شتى العلوم. حتى أن بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية تضم الآن أقساماً متخصصة لدراسة الاستراتيجية، أو مراكز (ومعاهد) للأبحاث الاستراتيجية. وإن كان هذا الاهتمام لم ينتقل إلى الوطن العربي بدرجة كافية سوى في عقد الثمانينات والتسعينات من هذا القرن، حيث مازالت الدراسات الاستراتيجية ضعيفة نوعاً ما في كل مجال وتسير بخطى بطيئة ومتأنية.
وإذا كان تعبير الاستراتيجية Strategyس قد أشتق أصلاً من الكلمة اليونانية Strategosس بمعنى فن القيادة Art of Generalshipس فإن استخداماته المعاصرة قد تعددت وشملت العديد من الميادين. فقد يوصف موقع ما أو جزء من دولة بأنه "استراتيجي" كمضيق هرمز أو باب المندب.
وقد يوصف قرار سياسي أو اقتصادي هام بأنه "استراتيجي" كما يطلق وصف "استراتيجي" على بعض أنظمة الأسلحة التي تؤثر تأثيراً حاسماً على معبر الحرب. كالأسلحة الاستراتيجية التي شملتها معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية Artس وقد تطلق هذه الصفة أيضاً على بعض المواد التي تؤثر على السياسة الاقتصادية أو السياسة العسكرية لدولة ما كالبترول مثلاً. وأخيراً قد يوصف نمط من التفكير أو الدراسات المتخصصة بأنه "تفكير استراتيجي" أو "الدراسات الاستراتيجية".
وللاستراتيجية تعريفات كثيرة يرتبط معناها ومبناها بالظروف الزمانية والمكانية التي قيلت فيها وبالأحداث التي انبثقت عنها، وبالأشخاص الذين صاغوها وبالمدارس الفكرية التي ولدت فيها. وقد لا يتسع معنا المجال هنا في هذا المقال لشرح كل هذه الظروف، ولكن من المعروف حالياً أنه ليس هناك تعريف (واحد) جامع مانع للاستراتيجية، وإنما يمكن التمييز حتى نهاية عام 1991م بين مدرستين كبيرتين لتعريف الاستراتيجية، الأولى هي المدرسة الغربية (الأوروبية الأمريكية)، والثانية هي المدرسة الشرقية (الاتحاد السوفييتي والدول الشرقية). والتي انهارت مع بداية عقد التسعينات من هذا القرن.
ومن تعاريف المدرسة الغربية لاصطلاح الاستراتيجية مثلاً: الاستراتيجية (هي فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب) أي أن الاستراتيجية تضع مخطط الحرب وتحدد التطور المتوقع لمختلف المعارك التي تتألف منها الحرب، وكذلك الاستراتيجية (هي علم وفن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق أهداف حددتها السياسة The Politic عن طريق القوة أو التهديد بها). أو الاستراتيجية (وهي علم وفن استخدام جميع موارد أمة ما أو موارد تحالف أمم، لتحقيق أغراض الحرب) وكذلك الاستراتيجية (وهي فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف حددتها السياسة) إنها فن حوار القوى وحوار الإرادات التي تستخدم القوى لحل خلافاتها.
كانت المدرسة الشرقية (سابقاً) ترى أن الاستراتيجية (هي نظام المعارف العلمية عن قوانين الحرب كصراع مسلح من أجل مصالح طبقية محددة. وهي تبحث على أساس دراسة خبرة الحرب والموقفين السياسي والعسكري والإمكانات الاقتصادية والمعنوية للبلاد ونوع وسائل الصراع الحديثة ووجهة نظر العدو المحتمل في شروط وطبيعة الحرب المقبلة، وطرق إعدادها وخوضها، وفي بناء القوات المسلحة وأسس استخدامها الاستراتيجي، وكذلك في أسس التأمين المادي والفني (اللوجستي) لها، ومن ثم قيادة الحرب والقوات المسلحة). إن ميدان ذلك كله هو ميدان النشاط العملي للقيادة العسكرية السياسية العليا، والقيادة العامة وهيئات الأركان العليا، والذي يتصل بفن تحضير البلاد والقوات المسلحة للحرب، وفن قيادة الصراع المسلح في ظروف تاريخية معينة.
وعلى الرغم من تعدد التعريفات الآنفة الذكر واختلاف وجهات النظر فيها، يمكن القول: إن خيطاً ناظماً يجمع بين هذه التعريفات السابقة، قوامه أن الاستراتيجية فن وعلم، وهي تعالج الوضع الكلي الشامل للصراع الذي يستخدم فيه القوى والقدرات والإرادات المختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل تحقيق هدف السياسة.
وتضع خطط هذا الاستخدام وتوفر له الوسائل اللازمة. والاستراتيجية في نظر معظم من كتب فيها أو مارسها تخطيطاً وتنفيذاً هي علم وفن، فهي علم لأنها تبنى على نظريات العلوم الاجتماعية والرياضية والعسكرية، وهي فن لأن ممارستها تختلف من إنسان إلى آخر، سواء كان ذلك الذي يمارسها سياسياً أو عسكرياً.
وأخيراً يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع أو مستويات من الاستراتيجية:
@ المستوى الوطني، أو المستوى الشامل وقد تعددت تسميات الاستراتيجية في هذا المستوى بين الدول فهي استراتيجية عليا أو كبرى أو كلية وشاملة، أو عامة.
@ المستوى التخصصي: وفيه تختص الاستراتيجية بمجال معين كالاستراتيجية العسكرية Military Strategy، والاستراتيجية السياسية Political Strategy، والاستراتيجية الاقتصادية Economic Strategy، وهكذا.
@ المستوى الفرعي: وفيه تهتم الاستراتيجية بنوع من مجال معين، فتكون للتصنيع استراتيجية وللتجارة الخارجية أخرى، وهكذا.
يمكن أن تضاف إلى هذه المستويات الثلاث السالفة الذكر، استراتيجية ذات مستوى أعلى خاصة بالوطن العربي هي:
@ الاستراتيجية القومية: لتكون محصلة الاستراتيجيات الوطنية للأقطار العربية، وهي الاستراتيجية التي تعني باستخدام كل قوى الأمة العربية، وفي ظروف الحرب والسلم، لتحقيق الأهداف القومية وحماية مصالح الوطن العربي، ومهمتها توجيه الاستراتيجيات القطرية الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والعسكرية، والتنسيق بينها من أجل تأمين الأمن القومي National Security للأمة العربية والوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
2 مضمون الاستراتيجية العسكرية ومكانها في علم وفن الحرب
إن الاستراتيجية العسكرية Military Strategy، في المفهوم الحديث، هي نظريات وتطبيقات الإعداد للحرب وخوضها بمجملها، وبعض مراحلها وحملاتها، وعمليات الجبهات (مجموعات الجيوش) ومجموعة الجبهات، المنفذة بالجهود المشتركة لجميع أنواع القوات المسلحة بغية تحقيق الغايات السياسية للحرب أو غايات استراتيجية أضخم منها، بحيث أصبح لا يفهم من الاستراتيجية العسكرية كنظرية ذات منهج متكامل متناسق في الوقت الحاضر التطبيق العملي فحسب، وإنما يفهم منها أيضاً نظرية الإعداد للحرب The war وخوضها.
يُفهم من محتوى مضمون الاستراتيجية العسكرية، مجموعة من المشاكل التي تعترض الاستراتيجية العسكرية ذاتها. وإن محتوى هذا المضمون الذي نتحدث عنه يتعلق بالمهمات والمشاكل التي تحلها الاستراتيجية العسكرية، وبالقوى والوسائط التي تضعها السياسة (أي الدولة) تحت تصرفها من أجل تحقيق غايات وأهداف سياسية معينة. وينتمي إلى المشاكل والمهمات التي تشكل بمجموعها محتوى الاستراتيجية العسكرية في الوقت الحاضر ما يلي:
@ قانونية الصراع المسلح، والاستراتيجية المتبعة، وحساباتها، واستخدامها في النشاط العملي للقيادة السياسية والعسكرية، شروط الحرب المقبلة وطبيعتها، إعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب، أنواع القوات المسلحة واستخدامها الاستراتيجي، أساليب خوض الصراع المسلح، التأمين المادي والفني للصراع المسلح، طرائق قيادة القوات المسلحة في الحرب، وجهات النظر الاستراتيجية، للأعداء المحتملين، مبادئ الدفاع المدني، حيث لا يعتبر محتوى الاستراتيجية العسكرية ثابتاً كمفهومها نفسه بل يتبدل بحسب التصورات المتبناة، بالنسبة للوقت الراهن عن ماهية الاستراتيجية، والمهمات التي تضعها سياسة الدولة، وإمكاناتها المادية والروحية أمام الاستراتيجية.
تعتمد الاستراتيجية العسكرية في حل هذه المشاكل وانجاز تلك المهمات الآنفة الذكر، على معرفة قوانين الحرب المعتبرة تاريخياً والمقررة علمياً وموضوعياً والتي تقرر بأن العلاقة بين سير الحرب ونهايتها والعوامل المادية الفنية (اللوجستية)، المعنوية السياسية (الروحية)، ذا مفعول متساوي الدرجة في أية حرب، وبالنسبة لأي جانب من الطرفين المتحاربين. ولهذا السبب يتوجب على القيادة السياسية والعسكرية العليا للبلاد (أو لدولة ما)، عند إعدادها البلاد للحرب أن تدخل في اعتبارها أن الحرب عبارة عن امتحان شامل للقوى المادية والمعنوية والروحية لكل أمة.
وعندما نتحدث عن محتوى الاستراتيجية العسكرية يجب أن نضع في اعتبارنا أيضاً أن حل جميع مشاكل الاستراتيجية العسكرية له ناحيتان: ناحية نظرية، وناحية عملية. وعلى الرغم من أن هاتين الناحيتين على ارتباط جدلي متبادل فيما بينهما إلا أن هناك فرقاً بينهما سنراه لاحقاً.
أ الجانب النظري للاستراتيجية العسكرية
تهتم نظريات الاستراتيجيات العسكرية باعتبارها مادية علمية ببحث العلاقات الشاملة والارتباط المتبادل لظاهرة الحرب، وعلى ضوء نتائج هذه البحوث تصوغ النظريات الاستراتيجية العسكرية: قوانين الاستراتيجية ومبادئها، والقواعد والمتطلبات والنصائح المتعلقة بشتى أمور ونواحي الصراع المسلح. وإن معرفة القوانين العامة للصراع المسلح تساعد القيادة السياسية والعسكرية على توقع طابع الحرب المقبلة، واستخدام هذه القوانين بنجاح عند قيادة الحرب، وتوجيه نشاط القوات المسلحة بشكل مدركٍ وواعٍ.
تشمل نظريات الاستراتيجية العسكرية دراسة طابع الحرب المقبلة، وعلى ضوء الاستنتاجات التي تضعها هذه النظريات، وانطلاقاً من الشروط الراهنة الفعلية للموقف السياسي والاستراتيجي، ومع اعتبار الإمكانات الفعلية (الحقيقية)، تقوم القيادة السياسة العسكرية، والقيادة العسكرية العليا والأركانات العليا، بالتخطيط العملي لإعداد البلاد للحرب وتوجيه القوات المسلحة والسكان للحرب. وبناء على هذه الاستنتاجات عن الحرب المقبلة والخبرة التاريخية أيضاً تحدد مكان ودور جميع أنواع القوات المسلحة Armed Forces، وأسس استخدامها الاستراتيجي في الحرب القادمة. والأساليب المتوقعة لخوض مثل هذه الحرب، وأسس قيادة القوات المسلحة عموماً.
وفي ضوء معطيات النظريات الحربية Military Theories تقوم القيادة العسكرية السياسية، والقيادة الاستراتيجية في البلاد ببناء أنواع القوات المسلحة عملياً، ووضع الأنظمة والمراجع التي تلقي ضوءاً على أساليب الصراع المسلح، ودور أنواع القوات المسلحة وصنوف القوات في الصراع المسلح، وتحقق القيادة الفعلية للقوات المسلحة في أثناء الحرب.
ب الجانب العملي (التطبيقي) للاستراتيجية العسكرية
يتجلى هذا الجانب العملي من الاستراتيجية العسكرية في مجال آخر من نشاط القيادة السياسية، والقيادة العليا والأركانات العليا وهو: فن إعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب (أي إعداد الدولة عسكرياً للحرب) وخوض الصراع المسلح في شروط زمنية راهنة. وننوه هنا أن تطبيقات الاستراتيجية العسكرية على الرغم من أنها تدخل في حساباتها جميع الاستنتاجات النظرية، إلا أنها قد لا تستخدمها جميعاً أو دائماً لأنها على علاقة مباشرة (وواقعية) بالحرب الراهنة، وبقوات مسلحة معينة ووسائط صراع مسلح محدد، وعلى علاقة أيضاً بالقادة (والمسؤولين) العاملين في مجال السياسة والحرب، فلهؤلاء خصائص وقدرات ومعارف استراتيجية مفيدة وخبرات عملية استراتيجية مختلفة، وهنا يتجلى كنه وماهية الاستراتيجية العسكرية.
إن الطبيعة المزدوجة للاستراتيجية العسكرية النظرية والعملية تحدد بيئتها للعلم العسكري، وفن الحرب، حيث أن الأسس العلمية لنظريات الاستراتيجية العسكرية في كشف قوانين الصراع المسلح تجعل منها أي (من الاستراتيجية العسكرية) جزءاً أساسياً من العلم العسكري (Military Seince)، كما أن الحلول العملية للمشاكل الاستراتيجية هي مجال من مجالات فن الحرب (War Art) لذا تحتل الاستراتيجية العسكرية مكان الصدارة في كل من العلم العسكري وفن الحرب بآن واحد، فهي التي تحدد مهام الصراع المسلح ووسائطه الحربية لفن العمليات (Operations Art) وهذا الأخير أي فن العمليات يُحدد بدوره مهام التكتيك (Tactical Missions) ووسائطه القتالية، والتكتيك كما نعرف يهتم بنظريات تحضير المعركة وتطبيقاته معاً.
نستدل مما سبق آنفاً أن نظريات الاستراتيجية العسكرية عبارة عن الجزء الرئيسي من العلم العسكري (علم الحرب)، وهي تبحث في القوانين المميزة للصراع المسلح الحديث، أما التنفيذ العملي للمهام الاستراتيجية في ضوء قواعد نظريات الاستراتيجية العسكرية ونصائحها فينتمي إلى فن الحرب، ولهذا تعتبر الاستراتيجية العسكرية أيضاً أحد الأقسام الأساسية لفن الحرب. وعلى هذا يقسم فن الحرب الحديث إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: الفن الاستراتيجي، الفن العملياتي، فن التكتيك (أو ما يطلق عليه اصطلاح "تعبئة").
وكل قسم من أقسام فن الحرب يرتبط بالقسم الأعلى مستوى منه بصورة عضوية ويؤثر في مساره.
هنا لا بد من التنويه أن ظهور الأسلحة الصاروخية والنووية أدى إلى حدوث تغيير جذري على التصورات السابقة عن طبيعة الحرب، لأن الحرب الصاروخية النووية الحديثة استناداً إلى قدرتها التدميرية (التخريبية) الفائقة ومجالاتها الواسعة وحركيتها المميزة، لا يمكن أن تقارن مطلقاً مع أية حرب سابقة. فقد ازدادت رقعة الحرب الحديثة اتساعاً. كما أن المدى في وسائط إيصال القذائف النووية غير المحدود تقريباً، يعطي الحرب المعاصرة اتساعاً غير محدود أيضاً بحيث يلغي جميع الحدود The Borders بين الجبهات (جبهات القتال) والمؤخرات (المناطق الإدارية) ويبدل مفهوم مسرح الأعمال الحربية.
إن الاستراتيجية العسكرية في شروط الحرب العالمية (الكونية) الحديثة International War هي استراتيجية الضربات (The Strikes) الصاروخية النووية العميقة المشتركة مع إعمال جميع أنواع القوات المسلحة بغية التأثير على العدو بآن واحد (انظر نظرية العملية الجوية البرية لعام 1982م) وكذلك النظرية الأطلسية (الصراع ضد الأنساق والاحتياطات المعادية لعام 1984م) وعلى مقدراته الاقتصادية وقواته المسلحة وتدميرها في كامل عمق أراضيه من أجل تحقيق غايات (أهداف) الحرب Targets of war في مهل قصيرة. ومن كل ما ذكر آنفاً يمكن القول أن الاستراتيجية العسكرية من حيث محتواها هي أعلى مجال من مجالات النشاط العسكري (Military Activity). وهي تعبير الجهاز العلمي لوجهتي النظر (النظرية والعملية) في بناء القوات المسلحة للدولة، واستخدامها الاستراتيجي في الحرب، وكذلك في مجال نشاط القيادة العسكرية العليا عند تنفيذ المهمات الاستراتيجية Strategic Missions)) في الصراع المسلح الحديث من أجل النصر على العدو.
3 المذاهب العسكرية الحالية السائدة
على ضوء معطيات نظريات الاستراتيجية العسكرية من طبيعة الحرب المقبلة وأساليب خوض الصراع المسلح تتبنى القيادة السياسية للدولة، المذهب العسكري Militarty Doctrine)) حيث يعتبر المذهب العسكري تعبيراً للأفكار ووجهات النظر والقواعد المتعلقة بمسائل التقدير السياسي للحرب المقبلة، ونظرة الدولة للحرب، وتحديد طبيعة الحرب المقبلة، وإعداد البلاد للحرب من النواحي الاقتصادية والمعنوية، والمتعلقة بمسائل بناء القوات المسلحة وتحضيرها وأساليب خوض الحرب التي تتبناها الدولة. وعلى ضوء هذا المذهب العسكري يضع منظرو الاستراتيجية العسكرية، القواعد الأساسية الاستراتيجية العسكرية لدولة ما، أي أن الاستراتيجية هي وليدة (ابنة) المذهب العسكري.
وإن لكل مذهب عسكري وجهان مترابطان: الأول (سياسي اجتماعي) من أجل تحقيق أهداف الحرب المقبلة، والثاني (عسكري تقني) من أجل خوض هذه الحرب. وتحمل المذاهب العسكرية في الوقت الحاضر كما في الماضي في طياتها اختلافات في الأيديولوجية والمبادئ الإنسانية للإعداد السياسي والمعنوي والنفسي وأحياناً الإعداد الروحي (الديني). كما تحمل طابع الحرب المقبلة ومسائل بناء القوات المسلحة، وتحسين تجهيزاتها التكنولوجية بالإضافة إلى أساليب التطوير اللاحق لفن الحرب وطرق خوض الحرب. كما ترتبط المذاهب العسكرية ارتباطاً وثيقاً بالنظام السياسي للدولة وبالأعباء الملقاة على عاتقها في قطاع السياسة الخارجية والداخلية، وبالحالة الاقتصادية والسياسية والثقافية للبلاد، وتحدد المبادئ الأساسية للمذهب العسكري في دولة ما من قبل القيادة السياسية للدولة ولذلك فإن المذهب العسكري هو سمة من سمات الدولة.
نستنتج مما سبق ذكره أن لكل دولة من دول العالم المعاصر "حالياً" مذهباً عسكرياً خاصاً يستجيب للأهداف القومية والسياسية ويتلاءم مع إمكانيات هذه الدولة المادية والمعنوية، ولهذا نرى الآن مذهباً عسكرياً أمريكياً، ومذهباً عسكرياً روسياً، ومذهباً عسكرياً بريطانياً، ومذهباً عسكرياً إسرائيلياً. وقد لا يتسع معنا المجال لشرح كل مذهب على حده، بل سنكتفي بإلقاء الضوء على المذاهب العسكرية الغربية، والمذاهب العسكرية الشرقية، والمذهب العسكري الإسرائيلي الذي يسير على هداه الكيان الصهيوني المصطنع.
أ المذاهب العسكرية الغربية
تقوم وجهة النظر العامة للمدرسة العسكرية الغربية على أن الحرب ليست قتالاً بين العقائد أو المذاهب بقدر ما هي قتال من أجل تحقيق أهداف تخضع لظروف واتجاهات معينة. أي أن معتنقي هذه النظرية الغربية يضعون المصالح الحيوية للغرب فوق المبادئ الأخرى، ولو أنهم يلمحون في بعض الأحيان إلى فكرة الدفاع عن الحضارة الغربية والديمقراطيات المعاصرة المطعمة بالأفكار والأخلاقيات المسيحية، وينادون حالياً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وفرض سياسة النظام العالمي الجديد. وباختصار يمكن القول أن المذاهب العسكرية الغربية تجمع على مسألة تأمين مصالح الغرب في العالم.
ومن يدرس المذهب العسكري الأمريكي وتطوره، يدرك كيف انتقلت الإدارة الأمريكية من سياسة "من مواقع القوة" والتصدي للشيوعية سابقاً، و"التوازن على حافة الحرب" إلى اعتماد استراتيجية "الانتقام الجماعي" بعد امتلاك الأسلحة النووية، ثم انتقلت إلى استراتيجية "التجاوب المرن" عام 1961م بعد نجاح السوفيت آنذاك في تطوير الأسلحة الصاروخية والنووية، وبعد ذلك (الرد المرن) ثم الترويج لإستراتيجية "الردع الحقيقي" عام 1971م، ومن ثم استراتيجية "القوة الوحيدة" عام 1991م إثر انتهاء حرب تحرير الكويت.
على الرغم من وجود اختلاف ظاهري للنظريات الاستراتيجية الغربية حول المذاهب العسكرية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن جوهرها بقي ثابتاً من غير تبديل جوهري لأنها اعتمدت جميعها على القوة النووية في بناء وتنظيم القوات المسلحة الحديثة، وفرضها على البنية التنظيمية للقوات المسلحة، المتبدلة وفقاً للأفكار "التصورات الاستراتيجية" الغربية، وبناءً على تطور وسائط الصراع المسلح بحيث تكون هذه القوات في ذاك الحين قادرة على خوض الحروب النووية وغير النووية "التقليدية" الشاملة والمحلية. وأن تضم في تشكيلاتها قوات ضاربة (قوات التدخل السريع) متحركة وجاهزة للزج في أية منطقة في الكرة الأرضية.
ب المذاهب العسكرية الشرقية
كان السوفييت (قبل سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م) يشترطون للمذهب العسكري الشرقي من وجهة نظرهم أن يُجيب على الأسئلة التالية:
@ من هو العدو الذي ستحاربه الدولة في الحرب المقبلة؟
@ ما هي طبيعة الحرب التي ستشترك فيها البلاد والقوات المسلحة؟ وما هي أهدافهما ومشكلاتهما في هذه الحرب؟.
@ ما هي القوات المسلحة الضرورية لحل المشاكل المطروحة؟
@ كيف يمكن أن يتم الإعداد للحرب؟
@ وبأية وسيلة سوف تُدار (تُقاد) هذه الحرب؟
والآن لا فائدة علمية مرجوة من دراسة تفاصيل وقواعد المذهب العسكري السوفييتي (السابق) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط حلف "وارسو" وعدم وضوح المذهب العسكري الروسي الجديد الحالي.
ج المذهب العسكري الإسرائيلي
يتميز المذهب العسكري الإسرائيلي عن غيره من المذاهب العسكرية الأخرى بتبنيه لتعاليم الدين اليهودي فيما يتعلق بشئون القتال والأمور المعنوية، ويلقن أفراد الجيش الإسرائيلي المعادي دروس التاريخ العسكري لليهود جنباً إلى جنب مع الدروس الحربية المستقاة من التاريخ العسكري العالمي الجديد والقديم. كما يدرس اليهود باهتمام بالغ استراتيجيات الحرب العالمية الأولى والثانية والحروب العربية الإسرائيلية أعوام 1948م، و1956م، و 1967م، 1973م، و1982م. ومعاركها والدروس العسكرية المستفادة منها.
وقد لا يتسع المجال هنا لذكر الأغراض الاستراتيجية الواجب تحقيقها والواردة في المذهب العسكري الإسرائيلي وكيف تطورت هذه الأهداف منذ عام 1948م إلى يومنا هذا، ولكن لا بأس من ذكر المفاهيم الاستراتيجية التي بنت عليها إسرائيل استراتيجيتها العسكرية العدوانية وهي: العنف، والأمن الذي تحرص عليه بالدفاع عن الأراضي المحتلة (وعدم التخلي عنها)، ونقل الحرب إلى أرض الخصم، وحتمية الحرب، لأن الحرب في نظر إسرائيل مهما كان لون الحزب الحاكم فيها هي الحالة الطبيعية، والسلم بنظرها هو فترة مؤقتة تستثمر من أجل التحضير لعدوان جديد والاستعداد للحرب. فهي تعتبر السلم وسيلة وليس غاية كما يعتبره العرب في مرحلة العملية السلمية الراهنة.
أقامت إسرائيل استراتيجيتها العسكرية على الأسس الاستراتيجية التالية:
1 الحرب الوقائية
واستباق الضربة والمبادأة في القتال للقضاء على الخصم (العربي) قبل أن يبدأ في القتال.
2 الردع
وذلك بمنع العرب من مباشرة القتال بأساليب مختلفة وتوسعت دائرة الردع الآن لتشمل الدول الإسلامية. وترفع الآن العصا النووية لتحقيق سياسة الردع والتخويف.
3 التفوق الاستراتيجي
ونقل المعركة إلى أرض الخصم وفرض سياسة الأمر الواقع وذلك بتحويل المكسب العسكري إلى أمر واقع مع مرور الزمن واستغلال الوضع الدولي وباشرت الآن الصناعة الصاروخية وغزو الفضاء والمساهمة في مشروع حرب النجوم المعروف.
خاتمة
إن عدم وضع مذهب عسكري عربي موحد حتى الآن دعا كل قطر عربي أن يرسم سياسته الدفاعية بصورة منفردة وأن يلجأ مضطراً إلى المذاهب العسكرية الأجنبية (الوضعية) يأخذ من بعضها خطوطاً وملامح ويأخذ عن بعضها الآخر معالم ومفاهيم إن لم يقلدها وأضافت بعض الدول العربية إلى هذا الخليط العجيب مجموعة من الاجتهادات القطرية دون مراعاة العوامل الجغرافية والقومية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والروحية. وقد لا يتسع معنا المجال لذكر أساليب هذا التشتت القومي والتقليد الحرفي ولكن علينا أن نفكر ونسعى بخطوات إيجابية تقربنا من الغاية المرجوة والأمنية المنشودة التي هي أمل كل عربي حر شريف وكل مسلم غيور على دينه ومقدساته =>
المصدر :- مجلة الدفاع